الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)
فَقَوْلُهُ: أُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ يَعْنِي أُرْضُوا بِالسَّيْفِ، أَيْ: لَا رِضًا لَهُمْ عِنْدَنَا إِلَّا السَّيْفُ لِقَتْلِهِمْ بِهِ.وَنَظِيرُهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: أَيْ لَا تَحِيَّةَ بَيْنَهُمْ إِلَّا الضَّرْبُ الْوَجِيعُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: يَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ النَّاقَةَ لَا جِرَّةَ لَهَا تُخْرِجُهَا مِنْ كَرِشِهَا فَتَمْضُغُهَا إِلَّا السَّيْرُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْمُرَادُ: لَا ثَوَابَ لَهُمْ إِلَّا النَّارُ، وَبِاعْتِبَارِ جَعْلِهَا ثَوَابًا بِهَذَا الْمَعْنَى فُضِّلَ عَلَيْهَا ثَوَابُ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ جَوَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ مَعَ إِيضَاحِنَا لَهُ.قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَيَظْهَرُ لِي فِي الْآيَةِ جَوَابٌ آخَرُ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ دَلَّا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ مُجَازًى بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا بَرَّ وَالِدَيْهِ وَنَفَّسَ عَنِ الْمَكْرُوبِ، وَقَرَى الضَّيْفَ، وَوَصَلَ الرَّحِمَ مَثَلًا يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَدَّمْنَا دَلَالَةَ الْآيَاتِ عَلَيْهِ، وَحَدِيثَ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَثَوَابُهُ هَذَا الرَّاجِعُ إِلَيْهِ مِنْ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا، هُوَ الَّذِي فَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ ثَوَابَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «جِئْتُ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ أَتَقَاضَاهُ حَقًّا لِي عِنْدَهُ، فَقَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: لَا، حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ، قَالَ: وَإِنِّي لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّ لِي هُنَاكَ مَالًا فَأَقْضِيكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا}»، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا الِاسْتِهْزَاءُ بِالدِّينِ وَبِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ يُؤْتَى مَالًا وَوَلَدًا قِيَاسًا مِنْهُ لِلْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا، كَمَا بَيَّنَّا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [41/ 50]، وَقَوْلِهِ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} الْآيَةَ [23/ 55- 56]، وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [34/ 35]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: {وَوُلْدًا} بِضَمِّ الْوَاوِ الثَّانِيَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ مَعًا، وَهُمَا لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ كَالْعُرْبِ وَالْعَرَبِ، وَالْعُدْمِ وَالْعَدَمِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَرَبِ الْوُلْدَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ كَقِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ: وَقَوْلُ رُؤْبَةَ: وَزَعَمَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ الْوَلَدَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ مُفْرَدٌ، وَأَنَّ الْوُلْدَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ جَمْعٌ لَهُ، كَأَسَدٍ بِالْفَتْحِ يُجْمَعُ عَلَى أُسْدٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّةِ هَذَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُلْدَ بِالضَّمِّ لَيْسَ بِجَمْعٍ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لِأَنَّ الْوُلْدَ فِي هَذَا الْبَيْتِ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَهُوَ مُفْرَدٌ قَطْعًا كَمَا تَرَى.
وَأَشَارَ إِلَى مُرَكَّبِ الْوَصْفِ بِقَوْلِهِ:مُرَكَّبُ الْوَصْفِ إِذَا الْخَصْمُ مَنَعْ وُجُودُ ذَا الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ الْمُتَّبَعْ وَالْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ بِنَوْعَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا تَنْهَضُ الْحُجَّةُ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ، وَإِلَى كَوْنِ رَدِّهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَصْمِ الْمُخَالِفِ هُوَ الْمُخْتَارُ، أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: فِي قَوْلِهِ: وَرَدُّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُرَكَّبِ بِنَوْعَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، فَلَا تَنْهَضُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ الطَّعْمُ، عَلَى الْحَنَفِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ الْقَائِلَيْنِ إِنَّهَا الْكَيْلُ كَالْعَكْسِ، وَهَكَذَا، أَمَّا فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ وَمُقَلِّدِيهِ فَظَنُّهُ الْمَذْكُورُ حُجَّةٌ نَاهِضَةٌ لَهُ وَلِمُقَلِّدِيهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِحَصْرِ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ طُرُقًا، مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْحَصْرُ عَقْلِيًّا كَمَا قَدَّمْنَا فِي آيَةِ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [52/ 35]، وَكَقَوْلِكَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَالِمًا بِهَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ: كَمَا يَأْتِي إِيضَاحُهُ، فَأَوْصَافُ الْمَحِلِّ مَحْصُورَةٌ فِي الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ- إِذْ لَا ثَالِثَ أَلْبَتَّةَ- أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهَا أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ إِجْمَاعٌ، وَمَثَّلَ لَهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ بِإِجْبَارِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، فَإِنَّ عِلَّةَ الْإِجْبَارِ إِمَّا الْجَهْلُ بِالْمَصَالِحِ، وَإِمَّا الْبَكَارَةُ. فَإِنْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَيْنَ دَلِيلُ حَصْرِ الْأَوْصَافِ فِي الْأَمْرَيْنِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ التَّعْلِيلِ بِغَيْرِهِمَا، فَلَوِ ادَّعَى الْمُسْتَدِلُّ حَصْرَ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَيْنَ دَلِيلُ الْحَصْرِ؟ فَقَالَ الْمُسْتَدِلُّ: بَحَثْتُ بَحْثًا تَامًّا عَنْ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فَلَمْ أَجِدْ غَيْرَ مَا ذَكَرْتُ، أَوْ قَالَ: الْأَصْلُ عَدَمُ غَيْرِ مَا ذَكَرْتَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا يَكْفِيهِ فِي إِثْبَاتِ الْحَصْرِ، فَإِنْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَنَا أَعْلَمُ وَصْفًا زَائِدًا لَمْ تَذْكُرْهُ، قِيلَ لَهُ: بَيِّنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْهُ سَقَطَ اعْتِرَاضُهُ، وَإِنَ بَيَّنَ وَصْفًا زَائِدًا عَلَى الْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُسْتَدِلُّ بَطَلَ حَصْرُ الْمُسْتَدِلِّ بِمُجَرَّدِ إِبْدَاءِ الْمُعْتَرِضِ الْوَصْفَ الزَّائِدَ، إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْعَلِيَّةِ فَيَكُونُ إِذًا وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَكْفِيهِ قَوْلُهُ: بَحَثْتُ فَلَمْ أَجِدْ غَيْرَ هَذَا- خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَأَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ إِلَى هَذَا الْمَسْلَكِ مِنْ مَسَالِكَ الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ: وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: فِي حَقِّ نَاظِرٍ وَفِي الْمُنَاظِرِ مَحِلُّهُ مَا لَمْ يَدَّعِ الْمُنَاظِرُ عِلَّةً غَيْرَ عِلَّتِهِ، وَإِنِ ادَّعَاهَا فَلَا تَكُونُ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا، وَكَمَا أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا وَرَدُّهُ انْتَفَى، إِلَخْ.وَإِذَا حَصَلَ حَصْرُ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فَإِبْطَالُ غَيْرِ الصَّالِحِ مِنْهَا لَهُ طُرُقٌ مَعْرُوفَةٌ:مِنْهَا: بَيَانُ أَنَّ الْوَصْفَ طَرْدِيٌّ مَحْضٌ، إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُصُوصِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِي ثُبُوتِهِ أَوْ نَفْيِهِ، كَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَابِ الْعِتْقِ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي أَحْكَامِ الْعِتْقِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ، وَإِنْ كَانَا غَيْرَ طَرْدِيَّيْنِ فِي غَيْرِ الْعِتْقِ كَالْإِرْثِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ، فَإِنَّ الذَّكَرَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ كَالْأُنْثَى، وَيُعْرَفُ كَوْنُ الْوَصْفِ طَرْدِيًّا- أَيْ: لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّعْلِيلِ أَصْلًا- بِاسْتِقْرَاءِ مَوَارِدِ الشَّرْعِ وَمَصَادِرِهِ، إِمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا فِي بَعْضِ الْأَبْوَابِ دُونَ بَعْضِهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا.وَمِثَالُ إِبْطَالِ الطَّرْدِيِّ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فِي الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ أَعْرَابِيٌّ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ جَاءَ يَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَضْرِبُ صَدْرَهُ، وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ الْمِثَالَ لَا يُعْتَرَضُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَيَانُ الْقَاعِدَةِ، وَيَكْفِي فِيهِ الْفَرْضُ وَمُطْلَقُ الِاحْتِمَالِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ أَعْرَابِيًّا، وَكَوْنَهُ جَاءَ يَضْرِبُ صَدْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ مِنْ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَهِيَ أَوْصَافٌ يَجِبُ إِبْطَالُهَا وَعَدَمُ تَعْلِيلِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا أَوْصَافٌ طَرْدِيَّةٌ لَا تَحْصُلُ مِنْ إِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهَا فَائِدَةٌ أَصْلًا، فَالْأَعْرَابِيُّ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَمَنْ جَاءَ فِي سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَمَنْ جَاءَ يَضْرِبُ صَدْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ أَيْضًا، وَمِثَالُ الْإِبْطَالِ بِكَوْنِ الْوَصْفِ طَرْدِيًّا فِي الْبَابِ الَّذِي فِيهِ النِّزَاعُ دُونَ غَيْرِهِ، حَدِيثُ «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ» الْحَدِيثَ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَالْكَهْفِ فَلَفْظُ الْعَبْدِ الذَّكَرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ، فَمَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي أَمَةٍ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ مِنِ اسْتِقْرَاءِ الشَّرْعِ أَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِتْقِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ لَا تُنَاطُ بِهِمَا أَحْكَامُ الْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَتِ الذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ غَيْرَ طَرْدِيَّيْنِ فِي غَيْرِ الْعِتْقِ كَالْمِيرَاثِ وَالشَّهَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْوَصْفُ الطَّرْدِيُّ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ: هُوَ مَا عُلِمَ مِنَ الشَّرْعِ إِلْغَاؤُهُ وَعَدَمُ اعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهِ مَصْلَحَةٌ أَصْلًا فَهُوَ خَالٍ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، وَمِنْ طُرُقِ الْإِبْطَالِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَصْرِ أَلَّا تَظْهَرَ لِلْوَصْفِ مُنَاسَبَةٌ، وَالْمُنَاسَبَةُ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ: هِيَ كَوْنُ إِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَصْلَحَةٌ فَعَدَمُ الْمُنَاسَبَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ طُرُقِ إِبْطَالِهِ فِي مَسْلَكِ السَّبْرِ، وَإِنْ كَانَ عَدَمُ ظُهُورِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْوَصْفِ لَا يُبْطِلُهُ فِي بَعْضِ الْمَسَالِكِ- غَيْرِ السَّبْرِ- كَالْإِيمَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ وَالدَّوَرَانِ، فَالْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ:الْأَوَّلُ: أَنْ تَظْهَرَ الْمُنَاسَبَةُ، وَظُهُورُهَا لَابُدَّ مِنْهُ فِي مَسْلَكِ السَّبْرِ وَمَسْلَكِ الْمُنَاسَبَةِ وَالْإِخَالَةِ.الثَّانِي: أَلَّا تَظْهَرَ الْمُنَاسَبَةُ وَلَا عَدَمُهَا، وَهَذَا يَكْفِي فِي الدَّوَرَانِ وَالْإِيمَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ.الثَّالِثُ: أَنْ يَظْهَرَ عَدَمُ الْمُنَاسَبَةِ، فَيَكُونَ الْوَصْفُ طَرْدِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا.وَمِنْ طُرُقِ الْإِبْطَالِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَصْرِ كَوْنُ الْوَصْفِ مُلْغًى وَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَيَكُونُ الْإِلْغَاءُ بِاسْتِقْلَالِ الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقَى بِالْحُكْمِ دُونَهُ فِي صُورَةٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا، حَكَاهُ الْفِهْرَيُّ، وَمِثَالُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْكَيْلَ وَالِاقْتِيَاتَ وَنَحْوَ ذَلِكَ أَوْصَافٌ مُلْغَاةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي مِلْءِ كَفٍّ مِنَ الْبُرِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَالُ وَلَا يُقَاتُ لِقِلَّتِهِ، فَعِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهِ الطَّعْمُ لِاسْتِقْلَالِ عِلَّةِ الطَّعْمِ بِالْحُكْمِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَوْصَافِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَالْقَصْدُ مُطْلَقُ التَّمْثِيلِ، لَا مُنَاقَشَةُ الْأَمْثِلَةِ.وَمِنْ طُرُقِ الْإِبْطَالِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَصْرِ كَوْنُ الْوَصْفِ الَّذِي أَبْقَاهُ الْمُسْتَدِلُّ مُتَعَدِّيًا مِنْ مَحِلِّ الْحُكْمِ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْوَصْفُ الَّذِي يُرِيدُ الْمُعْتَرِضُ إِبْقَاءَهُ قَاصِرٌ عَلَى مَحِلِّ الْحُكْمِ، قَالَ صَاحِبُ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ: وَذَلِكَ يُشْبِهُ تَعَارُضَ الْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَالْقَاصِرَةِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمِثَالُهُ: اخْتِلَافُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي عِلَّةِ الْكَفَّارَةِ فِي الْإِفْطَارِ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ خُصُوصُ الْجِمَاعِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ رَمَضَانَ، فَكَوْنُ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ بِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ الْجِمَاعَ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّعَدِّي عَنْ مَحِلِّ الْحُكْمَ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَا تَكُونُ كَفَّارَةٌ إِلَّا فِي الْجِمَاعِ خَاصَّةً، وَكَوْنُهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ رَمَضَانَ يَقْضِي التَّعَدِّي فِي مَحِلِّ الْحُكْمِ إِلَى غَيْرِهِ، فَتَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِجَامِعِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ رَمَضَانَ فِي الْجَمِيعِ مِنْ جِمَاعٍ وَأَكْلٍ وَشُرْبٍ، فَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْوَصْفُ بِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا عَلَى الْآخَرِ لِقُصُورِهِ عَلَى حَمْلِ الْحُكْمِ وَقَصْدُنَا التَّمْثِيلُ لَا مُنَاقَشَةُ الْأَمْثِلَةِ، وَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا أَنْ يَأْتِيَ مَنْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ الْجِمَاعُ، بِمُرَجِّحَاتٍ أُخَرَ لِعِلَّتِهِ، وَأَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ إِلَى طُرُقِ الْإِبْطَالِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ: هَذَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي الْمَقْصُودِ عِنْدَهُمْ بِهَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي هُوَ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اعْلَمْ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ يُخَالِفُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْجَدَلِيِّينَ، فَالتَّقْسِيمُ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي بَيْنَهَا تَنَافٍ وَتَنَافُرٌ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ بِالشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ، وَمَقْصُودُهُمْ مِنْ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمُتَنَافِيَةِ هُوَ أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِوُجُودِ بَعْضِهَا عَلَى عَدَمِ بَعْضِهَا، وَبِعَدَمِهِ عَلَى وُجُودِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ وَحَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَهُمْ هُوَ لَكِنَّ وَالتَّنَافِي الْمَذْكُورُ بَيْنَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ يَحْصُرُهُ الْعَقْلُ فِي ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مَعًا، أَوِ الْوُجُودِ فَقَطْ، أَوِ الْعَدَمِ فَقَطْ، وَلَا رَابِعَ أَلْبَتَّةَ.فَإِنْ كَانَ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مَعًا، فَهِيَ عِنْدَهُمُ الشَّرْطِيَّةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْحَقِيقِيَّةِ، وَهِيَ مَانِعَةُ الْجَمِيعِ وَالْخُلُوِّ مَعًا، وَلَا تَتَرَكَّبُ إِلَّا مِنَ النَّقِيضَيْنِ، أَوْ مِنَ الشَّيْءِ وَمُسَاوِي نَقِيضَيْهِ، وَضَابِطُهَا أَنَّ طَرَفَيْهَا لَا يَجْتَمِعَانِ مَعًا وَلَا يَرْتَفِعَانِ مَعًا، بَلْ لَابُدَّ مِنْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا وَعَدَمِ الْآخَرِ، وَعَدَمُ اجْتِمَاعِهِمَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ فِي الْوُجُودِ، وَعَدَمُ ارْتِفَاعِهِمَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ فِي الْعَدَمِ، وَضُرُوبُهَا الْأَرْبَعَةُ مُنْتِجَةٌ، كَمَا لَوْ قُلْتَ: الْعَدَدُ إِمَّا زَوْجٌ وَإِمَّا فَرْدٌ، فَلَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ زَوْجٌ أَنْتَجَ فَهُوَ غَيْرُ فَرْدٍ، وَلَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ فَرْدٌ أَنْتَجَ فَهُوَ غَيْرُ زَوْجٍ، وَلَوْ قُلْتَ: وَلَكِنَّهُ غَيْرُ زَوْجٍ أَنْتَجَ فَهُوَ فَرْدٌ، وَلَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ فَرْدٍ أَنْتَجَ فَهُوَ زَوْجٌ، وَضَابِطُ قِيَاسِهَا أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِعَدَمِ النَّقِيضِ أَوْ مُسَاوِيهِ عَلَى وُجُودِ النَّقِيضِ، أَوْ مُسَاوِيهِ كَعَكْسِهِ.وَإِنْ كَانَ التَّنَافُرُ وَالْعِنَادُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا فِي الْوُجُودِ فَقَطْ فَهِيَ مَانِعَةُ الْجَمْعِ الْمُجَوِّزَةُ لِلْخُلُوِّ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهَا حَصْرُ الْأَوْصَافِ، وَلَا تَتَرَكَّبُ إِلَّا مِنْ قَضِيَّةٍ وَأَخَصُّ مِنْ نَقِيضِهَا، وَضَابِطُهَا: أَنَّ طَرَفَيْهَا لَا يَجْتَمِعَانِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ فِي الْوُجُودِ، وَلَا مَانِعَ مِنِ ارْتِفَاعِهِمَا لِعَدَمِ الْعِنَادِ وَالْمُنَافَرَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْعَدَمِ، وَمَانِعَةُ الْجَمْعِ الْمَذْكُورَةُ يَنْتُجُ مِنْ قِيَاسِهَا ضَرْبَانِ، وَيَعْقُمُ مِنْهُ ضَرْبَانِ، وَمِثَالُهَا قَوْلُكَ: الْجِسْمُ إِمَّا أَبْيَضُ، وَإِمَّا أَسْوَدُ، فَإِنَّ اسْتِثْنَاءَ عَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ يُنْتِجُ نَقِيضَ الْآخَرِ، بِخِلَافِ اسْتِثْنَاءِ نَقِيضِ أَحَدِهِمَا فَلَا يُنْتِجُ شَيْئًا، فَلَوْ قُلْتَ: الْجِسْمُ إِمَّا أَبْيَضُ وَإِمَّا أَسْوَدُ لَكِنَّهُ أَبْيَضُ، أَنْتَجَ: فَهُوَ غَيْرُ أَسْوَدَ، وَإِنْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ أَسْوَدُ أَنْتَجَ فَهُوَ غَيْرُ أَبْيَضَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ فَلَا يُنْتِجُ كَوْنَهُ أَسْوَدَ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْأَبْيَضِ صَادِقٌ بِالْأَسْوَدِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ أَسْوَدَ، فَلَا يُنْتِجُ كَوْنَهُ أَبْيَضَ لِصِدْقِ غَيْرِ الْأَسْوَدِ بِالْأَبْيَضِ وَغَيْرِهِ، فَلَا مَانِعَ مِنِ انْتِفَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَكَوْنِ جِسْمٍ غَيْرَ أَبْيَضَ وَغَيْرَ أَسْوَدَ؛ لِأَنَّ مَانِعَةَ الْجَمِيعِ تُجَوِّزُ الْخُلُوَّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ بِأَنْ يَكُونَا مَعْدُومَيْنِ مَعًا، وَإِنَّمَا جَازَ فِيهَا الْخُلُوُّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَعًا لِوَاحِدٍ مِنْ سَبَبَيْنِ.الْأَوَّلُ: وُجُودُ وَاسِطَةٍ أُخْرَى غَيْرَ طَرَفَيِ الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَقَوْلُنَا فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ: الْجِسْمُ إِمَّا أَبْيَضُ، وَإِمَّا أَسْوَدُ يَجُوزُ فِيهِ الْخُلُوُّ عَنِ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ لِوُجُودِ وَاسِطَةٍ أُخْرَى مِنَ الْأَلْوَانِ غَيْرِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ مَثَلًا، فَالْجِسْمُ الْأَحْمَرُ مَثَلًا غَيْرُ أَبْيَضَ وَلَا أَسْوَدَ.السَّبَبُ الثَّانِي: ارْتِفَاعُ الْمَحِلِّ، كَقَوْلِكَ: الْجِسْمُ إِمَّا مُتَحَرِّكٌ، وَإِمَّا سَاكِنٌ، فَإِنَّهُ إِنِ انْعَدَمَ بَعْضُ الْأَجْسَامِ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً وَرَجَعَ إِلَى الْعَدَمِ بَعْدَ الْوُجُودِ فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ كُلٌّ مِنْ طَرَفَيِ الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَا يُقَالُ لِلْمَعْدُومِ: هُوَ سَاكِنٌ وَلَا مُتَحَرِّكٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [19/ 9]، وَقَوْلُهُ: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [19/ 67].وَإِنْ كَانَ الْعِنَادُ وَالْمُنَافَرَةُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا فِي الْعَدَمِ فَقَطْ فَهِيَ مَانِعَةُ الْخُلُوِّ الْمُجَوِّزَةُ لِلْجَمْعِ، وَهِيَ عَكْسُ الَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلَهَا تَصَوُّرًا وَإِنْتَاجًا، وَلَا تَتَرَكَّبُ إِلَّا مِنْ قَضِيَّةٍ وَأَعَمَّ مِنْ نَقِيضِهَا، وَضَابِطُهَا أَنَّ طَرَفَيْهَا لَا يَرْتَفِعَانِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ فِي الْعَدَمِ، وَلَا مَانِعَ مِنِ اجْتِمَاعِهِمَا لِعَدَمِ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُودِ، وَمِثَالُهَا: الْجِسْمُ إِمَّا غَيْرُ أَبْيَضَ، وَإِمَّا غَيْرُ أَسْوَدَ، فَإِنَّ هَذَا الْمِثَالَ قَدْ يَجْتَمِعُ فِيهِ الطَّرَفَانِ فَلَا مَانِعَ مِنْ وُجُودِ جِسْمٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ وَغَيْرُ أَسْوَدَ، كَالْأَحْمَرِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ وَغَيْرُ أَسْوَدَ، وَلَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ وُجُودُ جِسْمٍ خَالٍ مِنْ طَرَفَيْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي مَثَّلْنَا بِهَا، فَيَكُونُ خَالِيًا مِنْ كَوْنِهِ غَيْرَ أَبْيَضَ وَغَيْرَ أَسْوَدَ؛ لِأَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ غَيْرَ أَبْيَضَ أَثْبَتَّ أَنَّهُ أَبْيَضُ؛ لِأَنَّ نَفْيَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَإِذَا أَثْبَتَّ أَنَّهُ أَبْيَضُ اسْتَحَالَ ارْتِفَاعُ الطَّرَفِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ غَيْرُ أَسْوَدَ؛ لِأَنَّ الْأَبْيَضَ مَوْصُوفٌ ضَرُورَةً بِأَنَّهُ غَيْرُ أَسْوَدَ، وَهَكَذَا فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، لِأَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ غَيْرَ أَسْوَدَ أَثْبَتَّ أَنَّهُ أَسْوَدُ، وَإِذَا أَثْبَتَّ أَنَّهُ أَسْوَدُ لَزِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ، وَهُوَ عَيْنُ الْآخَرِ مِنْ طَرَفَيِ الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقِيَاسُ هَذِهِ يَنْتُجُ مِنْهُ الضَّرْبَانِ الْعَقِيمَانِ فِي قِيَاسِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَيَعْقُمُ مِنْهُ الضَّرْبَانِ الْمُنْتِجَانِ فِي قِيَاسِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ نَقِيضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فِي قِيَاسِ هَذِهِ الْأَخِيرَةِ يُنْتِجُ عَيْنَ الْآخَرِ، وَأَنَّ اسْتِثْنَاءَ عَيْنِ الْوَاحِدِ مِنْهُمَا لَا يُنْتِجُ شَيْئًا.فَقَوْلُنَا فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ: الْجِسْمُ إِمَّا غَيْرُ أَبْيَضَ وَإِمَّا غَيْرُ أَسْوَدَ، لَوْ قُلْتَ فِيهِ: لَكِنَّهُ أَبْيَضُ، أَنْتَجَ، فَهُوَ غَيْرُ أَسْوَدَ، وَلَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ أَسْوَدُ أَنْتَجَ فَهُوَ غَيْرُ أَبْيَضَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ، فَلَا يُنْتِجُ نَفْيَ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَلَا وُجُودَهُ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْأَبْيَضِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَدَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ أَسْوَدَ بَلْ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ أَسْوَدَ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ نَفْيُ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَلَا إِثْبَاتُهُ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْأَسْوَدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَبْيَضَ وَغَيْرَ أَبْيَضَ لِكَوْنِهِ أَحْمَرَ مَثَلًا.هَذِهِ خُلَاصَةٌ مُوجَزَةٌ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي نَظَرِ الْمَنْطِقِيِّينَ.الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اعْلَمْ أَنَّ لِهَذَا الدَّلِيلِ آثَارًا تَارِيخِيَّةً، وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْضَهَا.فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ الْعَظِيمَ جَاءَ فِي التَّارِيخِ أَنَّهُ أَوَّلُ سَبَبٍ لِضَعْفِ الْمِحْنَةِ الْعُظْمَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي عَقَائِدِهِمْ بِالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ أَنَّ مِحْنَةَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ نَشَأَتْ فِي أَيَّامِ الْمَأْمُونِ، وَاسْتَفْحَلَتْ جِدًّا فِي أَيَّامِ الْمُعْتَصِمِ، وَاسْتَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْوَاثِقِ، وَهِيَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ التَّارِيخِ قَائِمَةٌ عَلَى سَاقٍ وَقَدَمٍ.وَمَعْلُومٌ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ قَتْلِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْأَفَاضِلِ وَتَعْذِيبِهِمْ، وَاضْطِرَارِ بَعْضِهِمْ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ بِالْقَوْلِ خَوْفًا.وَمَعْلُومٌ مَا وَقَعَ فِيهَا لِسَيِّدِ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَنِهِ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ- تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ، وَجَزَاهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ خَيْرًا- مِنَ الضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ أَيَّامَ الْمُعْتَصِمِ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ أَوَّلَ مَصْدَرٍ تَارِيخِيٍّ لِضِعْفِ هَذِهِ الْمِحْنَةِ وَكَبْحِ جِمَاحِهَا هُوَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ.قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَاسِي، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ شُعَيْبٍ الشَّاشِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الشَّاشِيُّ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُنَبِّهٍ قَالَ: سَمِعْتُ طَاهِرَ بْنَ خَلَفٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْوَاثِقِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ يَقُولُ: كَانَ أَبِي إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا أَحْضَرَنَا ذَلِكَ الْمَجْلِسَ، فَأُتِيَ بِشَيْخٍ مَخْضُوبٍ مُقَيَّدٍ فَقَالَ أَبِي: ائْذَنُوا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ يَعْنِي ابْنَ أَبِي دُؤَادَ قَالَ: فَأُدْخِلَ الشَّيْخُ وَالْوَاثِقُ فِي مُصَلَّاهُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ: لَا سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِئْسَ مَا أَدَّبَكَ مُؤَدِّبُكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [4/ 86]، وَاللَّهِ مَا حَيَّيْتَنِي بِهَا وَلَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا، فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الرَّجُلُ مُتَكَلِّمٌ، فَقَالَ لَهُ: كَلِّمْهُ، فَقَالَ: يَا شَيْخُ، مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ الشَّيْخُ: لَمْ تَنْصِفْنِي- يَعْنِي وَلِيَ السُّؤَالُ- فَقَالَ لَهُ: سَلْ: فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: مَخْلُوقٌ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ عَلِمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، أَمْ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمُوهُ؟ فَقَالَ: شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمُوهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَبُو بَكْرٍ، وَلَا عُمَرُ، وَلَا عُثْمَانُ، وَلَا عَلِيٌّ، وَلَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، عَلِمْتَهُ أَنْتَ؟! قَالَ: فَخَجِلَ، فَقَالَ: أَقِلْنِي وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ مَخْلُوقٌ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ عَلِمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوهُ؟ فَقَالَ: عَلِمُوهُ وَلَمْ يَدْعُوا النَّاسَ إِلَيْهِ، قَالَ: أَفَلَا وَسِعَكَ مَا وَسِعَهُمْ؟! قَالَ: ثُمَّ قَامَ أَبِي فَدَخَلَ مَجْلِسَ الْخَلْوَةِ وَاسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ وَوَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْهُ النَّبِيُّ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانَ وَلَا عَلِيٌّ وَلَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، عَلِمْتَهُ أَنْتَ؟ سُبْحَانَ اللَّهِ، شَيْءٌ عَلِمَهُ النَّبِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَلَمْ يَدْعُوا النَّاسَ إِلَيْهِ أَفَلَا وَسِعَكَ مَا وَسِعَهُمْ؟ ثُمَّ دَعَا عَمَّارًا الْحَاجِبَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ الْقُيُودَ وَيُعْطِيَهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَيَأْذَنَ لَهُ فِي الرُّجُوعِ، وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ، وَلَمْ يَمْتَحِنْ بَعْدَ ذَلِكَ أَحَدًا. انْتَهَى مِنْهُ.وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَارِيخِهِ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنِ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ، وَلِمَا انْتَهَى مِنْ سِيَاقِهَا قَالَ: ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ بَعْضُ مَنْ لَا يُعْرَفُ. اهـ.وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ بِمَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ: مِنْ أَنَّ الْوَاثِقَ تَابَ مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ: قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ اسْتَوْلَى عَلَى الْوَاثِقِ وَحَمَلَهُ عَلَى التَّشْدِيدِ فِي الْمِحْنَةِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ: قَالَ: وَيُقَالُ إِنَّ الْوَاثِقَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ، أَنْبَأَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ، حَدَّثَنِي حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْمُهْتَدِي: أَنَّ الْوَاثِقَ مَاتَ وَقَدْ تَابَ مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهَذِهِ الْقِصَّةُ لَمْ تَزَلْ مَشْهُورَةً عِنْدَ الْعُلَمَاءِ صَحِيحَةَ الِاحْتِجَاجِ، فِيهَا إِلْقَامُ الْخَصْمِ الْحَجَرَ.وَحَاصِلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي أَلْقَمَ بِهَا هَذَا الشَّيْخُ- الَّذِي كَانَ مُكَبَّلًا بِالْقُيُودِ يُرَادُ قَتْلُهُ- أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ حَجَرًا، هُوَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ الَّذِي هُوَ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ. فَكَانَ الشَّيْخُ الْمَذْكُورُ يَقُولُ لِابْنِ أَبِي دُؤَادٍ: مَقَالَتُكَ هَذِهِ الَّتِي تَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهَا لَا تَخْلُو بِالتَّقْسِيمِ الصَّحِيحِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ عَالِمِينَ بِهَا أَوْ غَيْرَ عَالَمِينَ بِهَا وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، فَلَا قِسْمٌ ثَالِثٌ أَلْبَتَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ بِالسَّبْرِ الصَّحِيحِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَبَيَّنَ أَنَّ السَّبْرَ الصَّحِيحَ يُظْهِرُ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ لَيْسَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ.أَمَّا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَالِمًا بِهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَتَرَكُوا النَّاسَ وَلَمْ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا، فَدَعْوَةُ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ إِلَيْهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنْ عَدَمِ الدَّعْوَةِ لَهَا، وَكَانَ يَسَعُهُ مَا وَسِعَهُمْ.وَأَمَّا عَلَى كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ غَيْرَ عَالِمِينَ بِهَا، فَلَا يُمْكِنُ لِابْنِ أَبِي دُؤَادٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهَا، فَظَهَرَ ضَلَالُهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ مِنْ عَيْنِ الْوَاثِقِ، وَتَرَكَ الْوَاثِقُ لِذَلِكَ امْتِحَانَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَكَانَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ أَوَّلَ مَصْدَرٍ تَارِيخِيٍّ لِضَعْفِ هَذِهِ الْمِحْنَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَزَالَهَا اللَّهُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى يَدِ الْمُتَوَكِّلِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي هَذَا مَنْقَبَةٌ تَارِيخِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِهَذَا الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ.وَمِنْ آثَارِ هَذَا الدَّلِيلِ التَّارِيخِيَّةِ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ، مِنْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هَمَّامٍ السَّلُولِيَّ وَشَى بِهِ وَاشٍ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَأَدْخَلَ ابْنُ زِيَادٍ الْوَاشِيَ فِي مَحِلٍّ قَرِيبٍ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ نَادَى ابْنَ هَمَّامٍ السَّلُولِيَّ وَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُولَ فِيَّ كَذَا وَكَذَا؟! فَقَالَ السَّلُولِيُّ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ وَاللَّهِ مَا قُلْتُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ ابْنُ زِيَادٍ الْوَاشِيَ، وَقَالَ: هَذَا أَخْبَرَنِي أَنَّكَ قُلْتَ ذَلِكَ، فَسَكَتَ ابْنُ هَمَّامٍ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ مُخَاطِبًا لِلْوَاشِي: فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: صَدَقْتَ. وَطَرَدَ الْوَاشِيَ.وَحَاصِلُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ الَّذَيْنِ طَرَدَ بِهِمَا ابْنُ زِيَادٍ الْوَاشِيَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلسَّلُولِيِّ بِسُوءٍ بِسَبَبِهِمَا، هُوَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ الْمَذْكُورُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: لَا يَخْلُو قَوْلُكَ هَذَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ أَكُونَ ائْتَمَنْتُكَ عَلَى سِرٍّ فَأَفْشَيْتَهُ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قُلْتَهُ عَلَيَّ كَذِبًا، ثُمَّ رَجَعَ بِالسَّبْرِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاشِيَ مُرْتَكِبٌ مَا لَا يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ ائْتَمَنَهُ عَلَى سِرٍّ فَأَفْشَاهُ فَهُوَ خَائِنٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَالَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَذِبًا وَافْتِرَاءً فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ.الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ اعْلَمْ: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ التَّارِيخِيَّ الْعَظِيمَ يُوضِّحُ غَايَةَ الْإِيضَاحِ مَوْقِفَ الْمُسْلِمِينَ الطَّبِيعِيَّ مِنَ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ، وَبِذَلِكَ الْإِيضَاحِ التَّامِّ يَتَمَيَّزُ النَّافِعُ مِنَ الضَّارِّ، وَالْحَسَنُ مِنَ الْقَبِيحِ، وَالْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ الْقَطْعِيَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَضَارَةَ الْغَرْبِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى نَافِعٍ وَضَارٍّ: أَمَّا النَّافِعُ مِنْهَا فَهُوَ مِنَ النَّاحِيَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَتَقَدُّمُهَا فِي جَمِيعِ الْمَيَادِينِ الْمَادِّيَّةِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ أُبَيِّنَهُ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْمَنَافِعِ لِلْإِنْسَانِ أَعْظَمُ مِمَّا كَانَ يَدْخُلُ تَحْتَ التَّصَوُّرِ، فَقَدْ خَدَمَتِ الْإِنْسَانَ خِدْمَاتٍ هَائِلَةً مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَسَدٌ حَيَوَانِيٌّ، وَأَمَّا الضَّارُّ مِنْهَا فَهُوَ إِهْمَالُهَا بِالْكُلِّيَّةِ لِلنَّاحِيَةِ الَّتِي هِيَ رَأْسُ كُلِّ خَيْرٍ، وَلَا خَيْرَ أَلْبَتَّةَ فِي الدُّنْيَا بِدُونِهَا، وَهِيَ التَّرْبِيَةُ الرُّوحِيَّةُ لِلْإِنْسَانِ وَتَهْذِيبُ أَخْلَاقِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِنُورِ الْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي يُوَضِّحُ لِلْإِنْسَانِ طَرِيقَ السَّعَادَةِ، وَيَرْسُمُ لَهُ الْخُطَطَ الْحَكِيمَةَ فِي كُلِّ مَيَادِينِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَجْعَلُهُ عَلَى صِلَةٍ بِرَبِّهِ فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ.فَالْحَضَارَةُ الْغَرْبِيَّةُ غَنِيَّةٌ بِأَنْوَاعِ الْمَنَافِعِ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُولَى، مُفْلِسَةٌ إِفْلَاسًا كُلِّيًّا مِنَ النَّاحِيَةِ الثَّانِيَةِ.وَمَعْلُومٌ أَنَّ طُغْيَانَ الْمَادَّةِ عَلَى الرُّوحِ يُهَدِّدُ الْعَالَمَ أَجْمَعَ بِخَطَرٍ دَاهِمٍ، وَهَلَاكٍ مُسْتَأْصِلٍ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ الْآنَ، وَحَلُّ مُشْكِلَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ إِلَّا بِالِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِ الْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي هُوَ تَشْرِيعُ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَطْغَتْهُ الْمَادَّةُ حَتَّى تَمَرَّدَ عَلَى خَالِقِهِ وَرَازِقِهِ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا.وَالتَّقْسِيمُ الصَّحِيحُ يَحْصُرُ أَوْصَافَ الْمَحِلِّ الَّذِي هُوَ الْمَوْقِفُ مِنَ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ فِي أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ لَا خَامِسَ لَهَا، حَصْرًا عَقْلِيًّا لَا شَكَّ فِيهِ:الْأَوَّلُ: تَرْكُ الْحَضَارَةِ الْمَذْكُورَةِ نَافِعِهَا وَضَارِّهَا.الثَّانِي: أَخْذُهَا كُلِّهَا ضَارِّهَا وَنَافِعِهَا.الثَّالِثُ: أَخْذُ ضَارِّهَا وَتَرْكُ نَافِعِهَا.الرَّابِعُ: أَخْذُ نَافِعِهَا وَتَرْكُ ضَارِّهَا.فَنَرْجِعُ بِالسَّبْرِ الصَّحِيحِ إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، فَنَجِدُ ثَلَاثَةً مِنْهَا بَاطِلَةً بِلَا شَكٍّ، وَوَاحِدًا صَحِيحًا بِلَا شَكٍّ.أَمَّا الثَّلَاثَةُ الْبَاطِلَةُ: فَالْأَوَّلُ مِنْهَا تَرْكُهَا كُلِّهَا، وَوَجْهُ بُطْلَانِهِ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الِاشْتِغَالِ بِالتَّقَدُّمِ الْمَادِّيِّ يُؤَدِّي إِلَى الضَّعْفِ الدَّائِمِ، وَالتَّوَاكُلِ وَالتَّكَاسُلِ، وَيُخَالِفُ الْأَمْرَ السَّمَاوِيَّ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} الْآيَةَ [18/ 60]. الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْأَقْسَامِ الْبَاطِلَةِ أَخْذُهَا؛ لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الِانْحِطَاطِ الْخُلُقِيِّ وَضَيَاعِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمُثُلِ الْعُلْيَا لِلْإِنْسَانِيَّةِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ أُبَيِّنَهُ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا فِيهَا مِنَ التَّمَرُّدِ عَلَى نِظَامِ السَّمَاءِ، وَعَدَمِ طَاعَةِ خَالِقِ هَذَا الْكَوْنِ جَلَّ وَعَلَا: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [10/ 59]، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [42/ 21]، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْأَقْسَامِ الْبَاطِلَةِ هُوَ أَخْذُ الضَّارِّ وَتَرْكُ النَّافِعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَهُ أَقَلُّ تَمْيِيزٍ، فَتَعَيَّنَتْ صِحَّةُ الْقِسْمِ الرَّابِعِ بِالتَّقْسِيمِ وَالسَّبْرِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ أَخْذُ النَّافِعِ وَتَرْكُ الضَّارِّ.وَهَكَذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ، فَقَدِ انْتَفَعَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ خُطَّةٌ عَسْكَرِيَّةٌ كَانَتْ لِلْفُرْسِ، أَخْبَرَهُ بِهَا سَلْمَانُ فَأَخَذَ بِهَا، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَصْلَهَا لِلْكُفَّارِ، وَقَدْ هَمَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَمْنَعَ وَطْءَ النِّسَاءِ الْمَرَاضِعِ خَوْفًا عَلَى أَوْلَادِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْغِيلَةَ- وَهِيَ وَطْءُ الْمُرْضِعِ- تُضْعِفُ وَلَدَهَا وَتَضُرُّهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَأَخْبَرَتْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارِسُ وَالرُّومُ بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ، فَأَخَذَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ تِلْكَ الْخُطَّةَ الطِّبِّيَّةَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَصْلَهَا مِنَ الْكُفَّارِ.وَقَدِ انْتَفَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَالَةِ ابْنِ الْأُرَيْقِطِ الدُّؤَلِيِّ لَهُ فِي سَفَرِ الْهِجْرَةِ عَلَى الطَّرِيقِ، مَعَ أَنَّهُ كَافِرٌ.فَاتَّضَحَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ الْمَوْقِفَ الطَّبِيعِيَّ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ هُوَ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي تَحْصِيلِ مَا أَنْتَجَتْهُ مِنَ النَّوَاحِي الْمَادِّيَّةِ، وَيَحْذَرُوا مِمَّا جَنَتْهُ مِنَ التَّمَرُّدِ عَلَى خَالِقِ الْكَوْنِ جَلَّ وَعَلَا فَتَصْلُحَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَالْمُؤْسِفُ أَنَّ أَغْلَبَهُمْ يَعْكِسُونَ الْقَضِيَّةَ، فَيَأْخُذُونَ مِنْهَا الِانْحِطَاطَ الْخُلُقِيَّ، وَالِانْسِلَاخَ مِنَ الدِّينِ، وَالتَّبَاعُدَ مِنْ طَاعَةِ خَالِقِ الْكَوْنِ، وَلَا يَحْصُلُونَ عَلَى نَتِيجَةٍ مِمَّا فِيهَا مِنَ النَّفْعِ الْمَادِّيِّ، فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.وَمَا أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا وَأَقْبَحَ الْكُفْرَ وَالْإِفْلَاسَ بِالرَّجُلِ وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا نَافِعًا فِي كَوْنِ الدِّينِ لَا يُنَافِي التَّقَدُّمَ الْمَادِّيَّ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [17/ 9]، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَقَدْ عُرِفَ فِي تَارِيخِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْعَوْنَ فِي التَّقَدُّمِ فِي جَمِيعِ الْمَيَادِينِ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى طَاعَةِ خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَلَّ وَعَلَا.وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي مَعْنَى الْعَهْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [19/ 78]، أَنَّ الْمَعْنَى: أَمْ أَعْطَاهُ اللَّهُ عَهْدًا أَنَّهُ سَيَفْعَلُ لَهُ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} [2/ 80]، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: الْعَهْدُ الْمَذْكُورُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقِيلَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا}.ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ سَيَكْتُبُ مَا قَالَهُ ذَلِكَ الْكَافِرُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ، مِنْ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤْتَى مَالًا وَوَلَدًا مَعَ كُفْرِهِ بِاللَّهِ، وَأَنَّهُ يَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} [19/ 79] أَيْ: نَزِيدُهُ عَذَابًا فَوْقَ عَذَابٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا أَيْ: نُطَوِّلُ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَا يَسْتَأْهِلُهُ، وَنُعَذِّبُهُ بِالنَّوْعِ الَّذِي يُعَذَّبُ بِهِ الْمُسْتَهْزِئُونَ، أَوْ نَزِيدُهُ مِنَ الْعَذَابِ وَنُضَاعِفُ لَهُ مِنَ الْمَدَدِ، يُقَالُ: مَدَّهُ وَأَمَدَّهُ، بِمَعْنًى، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {وَنُمِدُّ لَهُ}، بِالضَّمِّ.وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْمَصْدَرِ، وَذَلِكَ مِنْ فَرْطِ غَضَبِ اللَّهِ، نَعُوذُ بِهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِمَا يَسْتَوْجِبُ غَضَبَهُ. اهـ.وَأَصْلُ الْمَدَدِ لُغَةً: الزِّيَادَةُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَكَابِرِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [16/ 88]، وَقَوْلُهُ فِي الْأَتْبَاعِ وَالْمَتْبُوعِينَ: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} [7/ 38].وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [19/ 80]، أَيْ: مَا يَقُولُ إِنَّهُ يُؤْتَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ، أَيْ: نَسْلُبُهُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا مَا أَعْطَيْنَاهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ بِإِهْلَاكِنَا إِيَّاهُ، وَقِيلَ: نَحْرِمُهُ مَا تَمَنَّاهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ فِي الْآخِرَةِ، وَنَجْعَلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَدُلُّ لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [19/ 40]، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [15/ 23]، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ.
|